نشرت جريدة (نيويورك تايمز) بتاريخ 29 كانون الأول (ديسمبر) 2010 مقالاً نقدياً حول التشوّهات البنيوية التي أصابت مكة المكرمة تحت مسمى مشروع توسعة الحرمين. يبدأ المقال بعبارة: (إنها سخافة معمارية). يقول المقال
الى الجنوب مباشرة من المسجد الحرام في مكة المكرمة، أقدس موقع في العالم الإسلامي، والتسليم للفن الهابط لساعة بيغ بن في لندن على وشك الانتهاء. يدعى برج ساعة مكة الملكي، والذي سيكون واحداً من أطول المباني في العالم، والمحور في مجمع يضم مركزاً تجارياً عملاقاً، وفندقاً يضم 800 غرفة، وقاعة الصلاة لعدة آلاف من الأشخاص. وسيتم تزيين شكله الخارجي، بلا حرج، بنسخة تقليدية عن الأصل، وبثها على نطاق بشع، مع النقوش العربية وعلى رأسها مستدقة هلالية الشكل في ما يشعر وكأنه إشارة ساخرة إلى ماضي الإسلام المعماري. لإفساح المجال لذلك، فإن الحكومة السعودية قامت بتجريف الحصن العثماني الذي يعود تاريخه الى القرن 18 والتل الذي أقيم عليه ذلك الحصن.
تم بناء ساعة برج مكة الملكي وعدد من العمارات الشاهقة، فيما تم مسح المزيد من الأراضي لأغراض البناء في المدينة السعودية، وأن بعض النقاد يعتبرون ذلك تحولاً رأسمالياً. وهذا هو الأمر الأخير في سلسلة استكشاف كيف أن المشاريع المعمارية على نطاق واسع تسهم في تحويل أجزاء من العالم العربي.
البرج هو مجرد واحد من العديد من مشاريع البناء في قلب مكة المكرمة، من خطوط القطار إلى العديد من المباني الشاهقة والفاخرة والفنادق والتوسع الهائل في المسجد الحرام. ويجري حالياً إعادة تشكيل النواة التاريخية لمكة المكرمة بطرق يجد كثيرون هنا بأنها مروعة، مما اثار انتقادات ساخنة على نحو غير عادي للحكومة السعودية التسلطية.
“إنه الاستغلال التجاري لبيت الله”، كما يقول سامي عنقاوي، معماري سعودي أسس مركزاً للأبحاث لدراسة قضايا التخطيط المدني حول الحج الى مكة، وكان واحداً من النقاد الأكثر صراحة للتوسعة. يقول عنقاوي “كلما اقتربنا من المسجد، كلما ازدادت كلفة الشقق. وفي الأبراج الأغلى، يمكنك دفع الملايين” لعقود تأجير لمدة 25 عاماً. وأضاف: (اذا كان بإمكانك رؤية المسجد، فيلزم دفع ثلاثة أضعاف).
ويقول مسؤولون سعوديون أن طفرة البناء ـ والهدم التي تأتي معها ـ ضرورية لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الناس الذين يؤدّون مناسك الحج في مكة، وهذا الرقم إرتفع إلى ما يقرب من ثلاثة ملايين في العام الماضي. وكوني غير مسلم، لم يسمح لي بزيارة مكة، ولكن العديد من المسلمين الذين تحدّثت معهم يعرفون جيدا ـ بما في ذلك المهندسين المعماريين، والآثاريون (المدافعون عن بقاء الآثار وحمايتها من الدمار المتعمّد غالباً) وحتى بعض المسؤولين الحكوميين ـ يعتقدون أن الدافع الحقيقي وراء هذه الخطط هو المال: الرغبة في الربح من بعض العقارات الأعلى قيمة في العالم. ويضيف هؤلاء، وقد تيسر ذلك خاصة عن طريق تفسير السعودية الصارم للإسلام، الذي يعتبر كثيراً من تاريخ ما بعد محمد (صلى الله عليه وسلم)، والتحف التي أنتجها فاسدة ، وهذا يعني أنه يمكن تدمير مبان عمرها قرون مع الإفلات من العقاب.
إن عقلية تقسيم المدينة المقدسة من مكة المكرمة ـ وتجربة الحج ـ على أساس طبقي واضحة للغاية، أي مع انفصال الأغنياء داخل مبان شاهقة ومكيّفة تطوّق المسجد الحرام، فيما يتم دفع الفقراء على نحو متزايد إلى الأطراف.
كان هناك وقت عندما كانت جهود العمارة والتخطيط الحضري التي قامت بها الحكومة السعودية، وخصوصاً حول مكة المكرمة، لا تبدو قاسية جداً. في السبعينيات من القرن الماضي، وفيما كانت الحكومة في طور السيطرة على شركة أرامكو، والتكتل الأمريكي الذي يدير حقول النفط في البلاد، والارتفاع الشديد في أسعار النفط أدى الى موجة من برامج التحديث الوطنية، بما في ذلك جهود واسعة النطاق لاستيعاب أولئك الذين يؤدون فريضة الحج.
شارك في تلك المشاريع بعض المواهب المعمارية الأعظم في العالم، وتمّ تشجيع الكثير منهم لإجراء تجارب بحريّة لم يجدوها في الغرب، حيث كانت عقيدة مابعد الحرب في الحداثة قد بلغت مرحلة الإنهاك. فأفضل أعمالهم – الحديثة ولكن الحساسة للبيئة والتقاليد المحلية – تحدّت الإفتراض الشائع بأن العمارة الحداثية، كما تمارس في العالم النامي، لم تكن أكثر من تعبير خام عن سعي الغرب للهيمنة الثقافية.
وشمل تلك الأعمال المدن الخيمية اللافتة للمهندس المعماري الألماني فراي أوتو في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، وتتألّف من هياكل خفيفة الوزن قابلة للطي مستوحاة من تقاليد قبائل البدو الرحل، وتهدف إلى استيعاب الحجاج دون الإضرار بعلم البيئة الحساسة من التلال التي تحيط بالمدينة القديمة.
خمسون ميلاً إلى الغرب، صالة سكيدمور، أوينغز وميريل الخاصة بالحجاج في مطار الملك عبد العزيز الدولي وهي تعبير مماثل لشكل من أشكال الحداثة التي يمكن أن تكون حسّاسة للتقاليد المحلية والظروف البيئية دون اللجوء إلى الفن الهابط. شبكة تتكون من أكثر من 200 من ستائر شبه خيمية تتكىء على نظام من الكابلات الصلبة والأعمدة، وهي مقسمة إلى مايشبه قرى صغيرة مفتوحة على الهواء الطلق، حيث يمكن للمسافرين الراحة والصلاة في الظل قبل مواصلة رحلتهم.
الخطط الحالية، على النقيض من ذلك، يمكن قراءتها على أنها مثل محاكاة تاريخية ساخرة. جنبا إلى جنب مع ساعة بيغ بن العملاقة، هناك العديد من مشاريع بناء أخرى فوق المعدّل ـ بما في ذلك اقتراح لتوسعة مخطط لها للمسجد الحرام يؤدي الى تهديم المجمع الأصلي للحرم ـ عبر مختلف أنماط إسلامية وهمية.
ولكن هالة مايشبه لاس فيجاس لهذه المشاريع يمكن أن تصرف الإنتباه عن الجريمة الحقيقية: إن الطريقة التي تمّت فيها مشاريع البناء هي تشويه للمدينة ـ مكة المكرمة ـ بكل الحسابات المتنوعة الى حد ما وغير مرتّبة. فسوف تتم إحاطة برج ساعة مكة بنصف دزينة من المباني الشاهقة والفاخرة، حيث تم تصميم كل منها بما يشبه التقاء شارع ويستمنستر بشارع وول ستريت ويقام على مجمع تجاري يقصد منه إثارة الأسواق التقليدية/الشعبية. وكونها بنيت على ارتفاعات مختلفة على حافة باحة المسجد الحرام، وتواجه محطة حافلات مقنطرة، وهي تشكل مزيج ما بعد الحداثة، وهذا يعني إثارة الخلافات في مدينة حقيقية ولكنها لن تفعل شيئا يذكر لوضع قناع على مشروع تجانس العقل المخدّر.
مثل مربّعات فاخرة تطوّق معظم الألعاب الرياضية، سوف تسمح شقق الأثرياء بالتحديق للأسفل مباشرة نحو الشعيرة الرئيسية من راحة الأجنحة الخاصة بهم دون الحاجة إلى الاختلاط مع الرعاع العاديين في الأسفل..
وفي الوقت نفسه ، دفع نطاق مشاريع البناء السكّان من الطبقة الوسطى والفقراء بعيداً أكثر فأكثر عن مركز المدينة. “أنا لا أعرف أين يذهبون”، يقول السيد عنقاوي. “إلى ضواحي مكة المكرمة، أو أنهم يأتون إلى جدة. تم تطهير مكة من المكيين”، على حد قوله.
التغييرات يرجَّح أن يكون لها قدر من التأثير على الطابع الروحي للمسجد الحرام في مكة كما على النسيج الحضري. قال لي كثير من الناس أن شدّة تجربة الوقوف في باحة المسجد لديها الكثير لتفعله مع علاقته بالجبال المحيطة. معظم هذه الجبال، تمثّل مواقع مقدّسة في حد ذاتها، والتي تلوح في الأفق ما يكسب وجودها في الفضاء شعوراً قوياً من الحميمية والألفة.
لكن تلك التجربة، أيضاً، من المؤكد أن تكون تراجعت مع إضافة كل برج جديد، والذي يشوّه (يعيب) جزء آخر من المشهد. هذا لا يعني أنه سيكون هناك الكثير للنظر: فكثير من التلال ستتوارى قريباً بواسطة السكك الحديدية الجديدة، والشوارع، والأنفاق، في حين يجري نحت تلال أخرى لجهة إفساح المجال لبناء المزيد من الأبراج.
“والمثير للسخرية هو أن البنّائين يقولون بأن المزيد من بناء الأبراج يعني توفير المزيد من المناظر” ، يقول فيصل المبارك، وهو مهندس حضري يعمل في وزارة (هيئة ـ المترجم) السياحة والآثار. وأضاف “لكن الأغنياء فحسب يستطيعون ارتياد هذه الأبراج، فهم يملكون المناظر”.
ليست القضية مجرد تحريك طاحونة الصراع الطبقي. فتحول المدينة يعكس انقساماً بين أولئك الذين يناصرون الرأسمالية المتوقّدة وأولئك الذين يعتقدون أنه ينبغي أن تتوقف عند أبواب مكة المكرمة، والتي يرون أنها تجسيد للمثالية الإسلامية لمبدأ المساواة.
“نحن لا نريد جلب نيويورك إلى مكة”، يقول السيد عنقاوي، ويضيف: “كان من المفترض دائما أن يكون الحج وقت يكون فيه الجميع على قدم المساواة. لا توجد طبقات، ولا جنسيات.. إنه مكان واحد حيث نجد التوازن. أنت من المفترض أن تترك وراءك الأمور الدنيوية”.
ومع ذلك، فإن الحكومة يبدو غير متأثرة بمثل هذه المشاعر. فعندما ذكرت ملاحظات السيد عنقاوي في نهاية محادثة طويلة مع الأمير سلطان، الرئيس العام لهيئة السياحة والآثار، عبس وببساطة قال: “عندما أكون في مكة المكرمة وأطوف حول الكعبة لا أنظر للأعلى”.